[Available in English from here]
عشر سنوات مضت على الحرب في سورية. لم تكن تلك الحرب العبء الوحيد في تلك السنوات، وإنما القيود المفروضة من الخارج وتبعات الحرب في الداخل تسببت ولازالت بالكثير من التحديات الخطيرة على جميع الأصعدة.
بدأنا في ما سبق بسلسلة من المقالات التي تقوم بتحليل هذه التحديات فيما يتعلق بمجال التقنية في سورية؛ حيث قمنا في الجزء السابق بالحديث عن تحدي حجب الخدمات الذي تقوم به باقي الدول على سورية، ثم ناقشنا كذلك تحدي حجب المنصات التعليمية ومنع السوريين من الاستفادة منها والتأثير بعيد المدى لذلك من خلال عدة أمثلة في العقد الماضي.
سنكمل في هذا المقال الحديث عن تحديين جديدين من جملة التحديات التي لازالت تعاني منها سورية الحبيبة، ونمضي بعد ذلك قدماً في هذه السلسلة إلى حين الوصول إلى الخطوة الأهم وهي استنتاج الدروس والنقاش حول المستقبل.
إذاً، لنبدأ الحديث عن التحدي الثالث.
التحدي الثالث: شبكة ويب غير عادلة
من المعروف أننا نتواجد جميعاً ضمن الشبكة العنكبوتية العالمية كما يطلق عليها (World Wide Web)، وهي شبكة تقوم بالوصل بين جميع أنحاء العالم وتتيح لأي شخص الوصول لأي مكان حول العالم بكبسة زر.
لكن رغم وجود هذه الشبكة واتصافها بالعالمية، هذا لا يعني بالضرورة أن جميع مستخدميها متساوون بالحقوق والإمكانيات.
أقصد بذلك أن مستخدماً على سبيل المثال من بلد ما يتمتع بجودة وميزات أكثر من مستخدم في بلد آخر رغم أنهما يستخدمان الخدمة نفسها ويزوران الموقع نفسه.
هذه المشكلة أثرت بشكل ملحوظ على التقنية في سورية خلال السنوات العشر الماضية بل وقبلها كذلك.
سنقوم بذكر بعض النقاط التي تعطي فكرة كافية عن هذه المشكلة:
- سورية غير موجودة في قائمة “اختر دولتك”:
تطلب بعض المواقع تحديد الدولة عند التسجيل لأول مرة، ورغم أن تلك الموقع لا تمنع المستخدم السوري من الدخول إليها، لكنها لا تعرض سورية ضمن قائمة الدول التي يمكن للمستخدم الاختيار منها.
لنأخذ Apple على سبيل المثال:
تقوم Apple بإتاحة استخدام أجهزتها داخل سورية وتصلها تحديثات الأنظمة بشكل مستمر. لكن عند التسجيل لحساب جديد نلاحظ عدم وجود سورية من ضمن القائمة.
تتكرر نفس النقطة كذلك في Twitter وغيره من الخدمات، حيث لايمكن إنشاء حساب جديد مرتبط برقم هاتف سوري رغم إمكانية استخدامه داخل سورية.
- عدم توفر خدمات الإعلانات في سورية:
يواجه قطاع التسويق الالكتروني عدم إمكانية استهداف المستخدمين بالإعلانات، حيث يمكننا أخذ Facebook على سبيل المثال والذي يُعتبر المنصة الأولى من حيث الاستخدام في سورية؛ لكن رغم ذلك فإن إنشاء أي حملات إعلانية تستهدف الداخل السوري هو غير ممكن.
تكمن المفارقة باعتبار هذه النقطة ميزة جيدة أثناء استخدام YouTube مثلاً (حيث لايوجد أي إعلانات يوتيوب في سورية)، إلا أنها تُشكل مشكلة كبيرة لدى أصحاب الأعمال والمسوّقين.
لذلك يلجأ المعلنون إلى استخدام صفحات الفيسبوك لنشر الإعلانات بشكل يدوي، أو استخدام طريقة أخرى أكثر سوءاً لكنها فعّالة، وهي إخفاء معلومات معينة والطلب من المتابعين التعليق من أجل إرسال المعلومات لهم، وذلك لتحقيق أكبر تفاعل ممكان وبالتالي الوصول إلى شريحة مستخدمين أكبر، وقد انتشرت هذه الطريقة بشكل كبير في الآونة الأخيرة.
- انخفاض جودة الخدمات وسرعتها:
يعاني المستخدمون أيضاً داخل سورية من بطء الخدمات دون أن يكون السبب داخلياً في بعض الأحيان وإنما الخدمات نفسها. فكون الخدمات تعمل في سورية فهذا لا يعني أنها تتميز بنفس الأداء مقارنة بدول أخرى، لذلك يلجأ المستخدمون إلى استخدام وسائل أخرى للحصول على سرعة أعلى.
وسواء أكان سبب ذلك هو حياد الإنترنت أم لا، غالباً ما تركز شركات الخدمات على المستخدمين الذي يحققون عوائداً من خلال استخدامهم (سواء أكانت العوائد بشراء الخدمات أو من خلال الإعلانات).
يلاحظ المستخدمون السوريون هذه المشكلة بشكل يومي، على سبيل المثال يتأثر YouTube و Facebook بشكل متفاوت كل فترة، مما يدفع المستخدمين إلى استخدام اتصال VPN لتحسين جودة الخدمة بالرغم أنها ليست محجوبة.
اذاً كما رأينا فإن شبكة الويب هي غير عادلة بالنسبة للمستخدمين السوريين.
في الحقيقة، إذا عدنا إلى أصل فكرة شبكة الويب، فهي صٌممت لتكون نقطة التقاء العالم كله في ساحة مشتركة واحدة، وهذا المفهوم قام بتغيير الحضارة البشرية إلى الأبد.
لكن للأسف، هذا التغيير لا يسير نحو الاتجاه الإيجابي دائماً؛ حيث تحدثتُ منذ فترة عن التحوّل السلبي الذي تمر فيه الشبكة العنكبوتية العالمية من خلال فيديو لـ Michio Kaku يشرح فيه سلّم تطور الحضارة البشرية وأنها تتجه نحو عصر المعلومات والترابط من خلال شبكة الإنترنت، لكن مايحصل الآن هو عكس ذلك تماماً… حيث يتم إعادة وضع الحدود الجغرافية بين المستخدمين وتصنيفهم طبقياً وحجبهم ومعاملتهم وفق ذلك. وهذا مايدفعنا إلى السؤال التالي:
“هل يوجد عدالة بمنع الأشخاص من حقهم بالوصول إلى أحد المصادر فقط لأنهم وُلدوا في مكان ما؟”
نترك هذا السؤال بدون إجابة، على أمل أن يتم الإجابة عنه من قبل صناع القرار في هذا العالم.
ننتقل الآن إلى تحديات من نوع مختلف تماماً، والتي يمكننا تصنيفها على أنها الأكثر خطورةً على التقنية في سورية… إنها القيود الاقتصادية التي تسببت بها الحرب.
التحدي الرابع: العقبات الاقتصادية
يطول الحديث عن هذا النوع من العقبات، ويوجد من هو أكثر تخصصاً في سردها والنقاش حول تبعاتها، لكننا لابد أن نتناولها من الجانب الذي يهمنا منها وهو الجانب التقني.
لنحاول تلخيص العقبات الاقتصادية التي أثرت على التقنية من خلال النقاط التالية:
- الحجب الخارجي للمعاملات المالية الالكترونية:
يعاني المستخدمون والعاملون في المجال التقني من صعوبات في أي شكل من أشكال الدفع والتحويل الإلكتروني من وإلى سورية نتيجة العقوبات الخارجية أحادية الجانب، على سبيل المثال:
– لايمكن استخدام بطاقات الائتمان كـ Visa Card أو Master Card والحسابات البنكية للتعاملات المالية.
– لايمكن استخدام Paypal وأي خدمات مشابهة.
بالنسبة للأفراد، تؤدي هذه المشكلة إلى عدم إمكانية الاستفادة من بعض الخدمات حتى ولو كانت غير محجوبة.
أما على صعيد الأعمال، تؤدي هذه المشكلة في الغالب إلى قطع أي تماس لقطاع الأعمال في الخارج مع قطاع الأعمال في الداخل، وذلك من خلال زيادة صعوبة إنجاز أي تعاملات مع الأطراف خارج سورية كالخدمات أو العقود أو المشاريع.
وبشكل عام، أي معاملات مالية صادرة أو واردة للأفراد والشركات تعتبر من الأمور الصعبة في الوقت الحالي.
- فارق سعر الصرف الكبير:
إن سبب هذه المشكلة بالطبع هو الحرب الطويلة والمؤلمة التي مرت على سورية، بالإضافة للقيود الخارجية أدت إلى زيادة سعر الصرف العملات العالمية مقارنة بالليرة السورية.
أدت هذه المشكلة إلى تجميد المجال التقني وصعوبة مجاراته للعالم الخارجي بسبب النقاط التالية:
– صعوبة تطوير العتاد التقني وتحديثه بسبب ارتباطه بسعر الصرف (يشمل ذلك أجهزة الجوال، أجهزة الحاسب، أجهزة البنية التحتية.. وغيرها من العتاد التقني) فنلاحظ أن سويّة مواصفات الأجهزة المستخدمة في سورية لاتتناسب مع السويّة العالمية، مما يخلق ذلك تحدٍ دائم؛ وهو استخدام تطبيقات وأدوات عالمية تتطور بشكل مستمر على عتاد أصبح قديماً.
– استمرار عدم تقبل المجتمع في غالبه فكرة الدفع مقابل البرمجيات وكذلك الدفع الالكتروني والشراء الالكتروني.
- انخفاض الأجور:
هذه المشكلة يعاني منها بالطبع كافة قطاعات المجتمع وليس القطاع التقني فقط، لكن الأخير يعاني منها بشكل مختلف نتيجة عدم وجود معيار لتحديد سويّة أجوره في سورية حتى الآن، إضافةً إلى تأثره الشديد بالتحديات السابقة.
لأخذ فكرة عن مدى انخفاض أجور العاملين في المجال التقني خلال الحرب، نستطيع القول بشكل وسطي أن الوارد الشهري لفرد في سورية يكفي لاشتراك 5 أشهر Premium في Netflix، مقارنةً بـ 22 شهراً ما قبل الحرب، أي بانخفاض بنسبة 80%.
يعطي استطلاع الرأي التالي الوضع الحالي لرواتب العاملين في المجال التقني داخل سورية:
نلاحظ تدرج النسبة بشكل خطي حتى الوصول إلى أكثر من 1,000,000 ل.س، وهذا يعود إلى العمل عن بعد مع الخارج.
- عدم إمكانية مجاراة الأعمال المحلية للأجور في الخارج:
نتيجةً للأسباب السابقة، ازدادت مؤخراً شعبية العمل المستقل والعمل عن بعد مع دول الخارج، ورغم أن هذا الاتجاه قد يحل جزء من المشكلة بالنسبة للأفراد لكنه يضيف تأثيراً سلبياً في المقابل، سنناقش أحدهما في المقال الحالي ونترك الآخر إلى المقال القادم.
إن المفارقة التي تحصل في مثل هذه الحالات هي دفع الخارج لمبلغ مالي قد يصل إلى 20% * لما هو عليه، لكن بسبب فرق العملة يصبح هذا الرقم كبيراً بنظر نسبة لا بأس بها من الأفراد بالداخل.
وبكل تأكيد لايمكن أن تصمد أغلب الأعمال المحلية أمام المقارنة السابقة، لذلك أصبحت تعاني هذه الأعمال من توفر العمالة في ظل المقارنة مع الأجور في الخارج؛ وهذا ما يقتل بعض الشركات الناشئة المحلية أو يعيقها للوصول إلى مشاريع نوعية في الداخل، حيث كان من الممكن عند تنفيذ تلك المشاريع خلق اعتماد محلي بدلاً عن الاعتماد على الخارج.
* وفقاً لإحصائية عملت عليها من أجل مقارنة أجور العاملين في المجال التقني بين الخارج والداخل السوري.
يمكننا القول أن العقبات الاقتصادية بالفعل من أخطر التحديات على التقنية، وذلك لأنها -إلى جانب التحديات السابقة- تكمل دائرة التضييق الخارجي على المجتمع التقني السوري من خلال: (1) منعه من استخدام الخدمات الخارجية، (2) منعه من التعامل مع مجتمع الأعمال التقني عالمياً، (3) منعه من مواكبة التطورات التقنية بسبب اختلاف المستوى الاقتصادي.
ورغم أن هذا التحدي واسع بالفعل ويستمر بالاتساع، فقد حاولنا أخذ الجانب الذي يهمنا منه بالوقت الحالي وهو الجانب التقني.
ها نحن وصلنا إلى نهاية الجزء الثاني من هذه السلسلة، حيث تحدثنا عن عدالة الانترنت والقيود الاقتصادية في سورية.
يمكننا الملاحظة بالفعل أن نوعية التحديات في ازدياد وتأثيرها في تصاعد كبير خصوصاً في العامين الأخيرين 2020 و 2021.
لكن وبالرغم من كل ذلك، لايجب أن نقع بقصر النظر أثناء قراءتنا لهذه التحديات، فهدفنا من سردها كما قلنا هو تحليلها والاستفادة منها في الجزء الأخير من هذه السلسلة.
“… بالرغم أن العقوبات على سورية ليست محركاً للدمار، إلا أنها تشكل عائقاً لعملية التعافي”
كما ورد في تقرير الأمم المتحدة عن سورية لعام 2020.
سوف نقوم في الجزء القادم بالحديث عن آخر تحديين وهما البنية التحتية وطريقة تفكير المجتمع. سينال التحدي الأخير نصيباً كبيراً من النقاش لتعلقه الكبير بالمستقبل، وبذلك ننتهي من سرد التحديات ونصل للخطوة الأهم وهي استخلاص الدروس منها لأجل المرحلة القادمة.
إلى ذلك الحين… دمتم بخير.
مقال جميل فعلا وشامل وألقى الضوء على نقاط هامة جدا
بالنسبة للوضع الحالي هل هناك حلول مقترحة يمكن ان تساهم في تحييد ولو بشكل جزئي لهذا الحظر ومدى فعاليته ايضا ؟
شكرا م. يمان
شكراً على سؤالك مصعب،
سأقوم بالإضاءة على بعض الحلول من وجهة نظري في الجزء الأخير من هذه السلسلة إن شاء الله.
لا أعلم كيف أصف لك هذا الشعور بعد انتهائي من قراءة مقالك يمان، لكنه أشبه مايكون بالسير بانخفاض عشرات الأمتار تحت الأرض بالكاد تتحرك؛ فالجاذبية تكاد ترميك أرضاً بينما البقية يَطفون في الأعلى…
قد يجعلنا هذا ببُنى أشد متانة وصلادة منهم لكن الوقت سيكون حليفهم دوماً.
دُمت بخير صديقي، سلِمت يداك 🌸
جزاك الله خيراً، شرح جميل ومفصل. أستذكر المنشور التالي الذي كتبته رداً على موقف محزن حدث معي بسياق مقالتك.
“من المحزن أن تتم دعوتك من قبل هيئة رسمية في المملكة المتحدة لحضور مؤتمر حول دعم مستقبل سوريا باستخدام تطبيق زوم للنقاش عبر الويب. حسنًا، لا يسمح لي زوم بوضع بلدي الأصلي عند التسجيل لأنه بحسب موقعهم الرسمي: “لأسباب تنظيمية، يتعذر على المستخدمين في سوريا حاليًا الوصول إلى خدمات زووم.” أعتقد أن هذا يلخص كل شيء، ويجب أن يكون رفع العقوبات الغير منطقية على الشعب السوري هو موضوعنا الرئيسي. حالياً لا يمكن للسوريين الوصول إلى خدمات تعليمية ومهنية كثيرة بسبب العقوبات الأمريكية.
تعديل: شخص من الهيئة الرسمية تواصل معي وقال لي أنهم يعملون على حل هذه المسألة. أنا أقدر تفهمهم واستجابتهم السريعة!”
شكراً على جهودك بالاضاءة هلى هذا الموضوع بطريقة ممنهجة.