تحدّيات التقنية في سورية (1): حجب الخدمات ومصادر التعلّم

[تتوفر هذه الدراسة باللغتين العربية والإنكليزية]

عانت سورية من تحديات خانقة في مجال التقنية خلال السنوات العشر الماضية، وسواء أكانت هذه التحديات المتزايدة بسبب التضييق الخارجي أو الظروف الداخلية، أثّر ذلك سلباً على تطور التقنية وعلى وجودها في الساحة العالمية، وسبّب عزلها بشكل شبه كامل عن الوسط الخارجي.

هل تظنني مبالغاً بالكلام السابق؟
إن هذا المقال هو الجزء الأول من دراسة تتناول تلك التحديات بشكل مفصّل، يمكنك متابعة قراءة باقي الأجزاء والإجابة فيما إذا كان الكلام السابق مبالغاً فيه بالفعل.


ماهو الدافع وراء هذه الدراسة؟


قمتُ بالتحدث في فترة سابقة عن ظروف الطاقة التي تعيشها سورية من خلال تغريدة رويت فيها قصتي مع مُخدّم داخلي (جهاز كومبيوتر) أعددته في منزلي والوقت الذي استطاع هذا المخدم أن يعمل بدون انقطاع في ظلّ ظروف الطاقة الحالية.


رغم أن الفكرة كانت تعبّر عن مفارقة، إلّا أنها تحمل في طيّاتها فكرة جديّة وعميقة عن الوضع الحالي.

مما دفعني إلى طرح السؤال التالي:
“هل من الحكمة النظر إلى الظروف الحالية من جانب سلبي فقط؟ أم هناك جانب إيجابي من مسؤوليتنا اكتشافه والحديث عنه؟”

 

 

وبهدف الإجابة على هذا التساؤل، قررتُ العمل على هذه الدراسة محاولاً (1) سرد التحديات التي واجهت ولا تزال تواجه التقنية في سورية، ثم (2) استنتاج الدروس الهامة التي وصلنا إليها خلال السنوات العشر الماضية، وأخيراً (3) النقاش حول المستقبل من خلال محاولة وضع بعض ملامح المرحلة القادمة.
ساحة النقاش معكم بالطبع هي التي ستغني هذه الدروس وتصححها، لذا سأكون سعيداً بمشاركة رأيكم، لعلها تكون الخطوة الأولى في التعاون معاً للوصول إلى المستقبل الذي نطمح إليه.

ماهي التحديات التي واجهتها سورية على صعيد التقنية في السنوات العشر الماضية؟


يمكن تصنيف هذه التحديات إلى 6 أصناف رئيسية، حيث سنقوم بتناول كلاً منها بشيء من التفصيل.

وقبل أن نبدأ، يجب أن ننوه بأن سردنا لهذه التحديات ليس بهدف النقد، فليس من الحكمة أن نقدّم النقد وحده ونحن خارجون من حرب طويلة بالطبع، وإنما الهدف الأهم هو التعلم من تلك التحديات والخروج منها بدروس لمرحلة مابعد الحرب، وهذا ماسنتحدث عنه بالتفصيل في الجزء الرابع من هذه الدراسة.

لنبدأ بالتحديات إذاً.

التحدي الأول: الحجب الخارجي للخدمات

نستطيع القول أن حجب الخدمات هو من أصعب التحديات التي يعانيها كل شخص يومياً، بدءاً من أصغر الخدمات أحياناً وانتهاءً بأكبرها.
ورغم أن القائمة تطول بذكر الخدمات المحجوبة، لكن نذكر بعض العينات التي تعطي فكرة عن الوضع الحالي:

لا يمكن حالياً استخدام الخدمات السابقة بما فيها تنزيل التطبيقات من خلال المتاجر (ناهيك عن تحدي نشر تطبيقات عليها أيضاً)، لذلك يلجأ أغلب الأشخاص إلى استخدام اتصال VPN في بعض الأحيان أو الاعتماد على طرق ومواقع بديلة.
ولاتزال قائمة المواقع المحجوبة تزداد بشكل دائم مما يجعل احصاءها ليس بالأمر السهل:
Adobe, Shopify, Paypal, Spotify, Slack, Webex, Trello, Atlassian, Archive, Oracle ,Google Analytics, Google Admob, Firebase, Google Cloud, Google Developers… والقائمة تطول.

ورغم أن حجب خدمة ما بالكامل هو أمر سيء، لكن صدقني هناك ماهو أسوأ، وهو أن تكون تلك الخدمة تعمل ويتم حجبها بشكل مفاجئ.
حصلت بالفعل الكثير من الحالات عن خدمات كانت تعمل بشكل طبيعي في سورية وتم حجبها وإيقاف عضويات مستخدميها بدون سابق إنذار.

لنذكر بعض الحالات لخدمات تم حجبها بشكل مفاجئ:

  • تطبيق المحادثة Slack:

وهو تطبيق يعطي الإمكانية لإنشاء مساحة محادثة بين أفراد الفريق فقط ويتمتع بشعبية كبيرة حول العالم.
قام Slack في عام 2018 بإغلاق حسابات الأشخاص الموجودين داخل سورية بشكل مفاجئ، وحصل ذلك مع فرق عمل أفرادها بالكامل داخل سورية (كما مع بيترونكس على سبيل المثال) وكذلك لفرق عمل خارج سورية لديها بعض الأفراد في الداخل (كما حصل مع حسوب على سبيل المثال).

رسالة وصلت إلى أفراد الفريق تعلمهم بتوقف حساباتهم بشكل مفاجئ – 2018
  • منصة تطوير البرمجيات Github:

منصة Github هي أكبر المنصات على الإطلاق في إدارة مصادر البرمجيات (Source code) وتنسيقها بين أفراد فرق العمل.
وصلت الرسالة التالية في عام 2019 بشكل مفاجئ أيضاً إلى أفراد الفرق الموجودين داخل سورية، لكن هذه المرة وصلت أيضاً إلى أشخاص خارج سورية كانوا موجودين في الداخل بوقت ما في الماضي (تبين لاحقاً أن منصة Github كانت تقوم بالاحتفاظ بالمواقع الجغرافية للمستخدمين، واستفادت من هذا السجل لإيقاف بعض الحسابات لاحقاً)، وشملت عملية الإيقاف الخطط المدفوعة أيضاً.

رسالة وصلت إلى أفراد الفريق تعلمهم بتوقيف حساباتهم وفقدناهم الوصول للمشاريع التي يعملون عليها بشكل مفاجئ – 2019

وبعد الكثير من الاستياء الذي واجهه المدير التنفيذي Nat Friedman على Twitter، قامت Github بتخفيف الحجب وجعله مقتصراً على المشاريع الخاصة فقط (Private Repositories).


نلاحظ إذاً عدم وجود سياسة واضحة للحجب بين الخدمات، وكذلك اختلاف الوقت الذي يتم فيه إطلاق قرار الحجب.
لكن في كلا الحالتين السابقتين، كان القرار مفاجئاً بدون سابق إنذار مما تسبب بضرر كبير لفرق العمل، وقطع تواصلهم وأعاق عملهم بشكل شبه كامل لفترة زمنية لايُستهان بها.

ونتيجةً للحالات السابقة والكثير غيرها التي لم نقم بذكرها، أصبح المستخدم السوري لايثق بأغلب الخدمات الخارجية حتى ولو كانت غير محجوبة، فبين عشيّة وضحاها قد يصدر قرار الحجب بشكل مفاجئ ويخسر المستخدمون الوصول للخدمات وبيناتهم المحتواة فيها.
يمكننا تلخيص الوضع الحالي للثقة في الخدمات الخارجية من خلال التغريدة التالية:

رد على تغريدة لـ Nat Friedman توضّح عدم الثقة مجدداً في الاعتماد على Github من أجل المشاريع المتعلقة بسوق العمل في المستقبل القريب

التحدي الثاني: التقييد الخارجي لمصادر التعلّم

بالرغم من أن التحدي السابق يشكل مصدر معاناة مستمراً، لكن التضييق على مصادر التعلم يشكل خطراً أكبر. وهذا قد يعود لسبب واحد:

“مصادر التعلم هي التي تعطينا إمكانية إنشاء بدائل الخدمات السابقة، وحجبها عن سورية يؤدي إلى صعوبة إنشاء تلك البدائل”

وبشكل مشابه للسابق، سوف نأخذ بعض العينات التي تعطي فكرة عن الواقع الحالي:

منصة Coursera
منصة Udemy

أما بالنسبة لمنصة Udacity، فهي تقوم بحجب شهادات Nanodegrees (وهي شهادات مدفوعة مدتها 6 أشهر، تقدم مستوى علمي وعملي أعلى من الشهادات المجانية). ولدى محاولتي شخصياً الالتحاق بإحداها، تواصلت مع أحد المشرفين وكان الرد كالتالي:

رد من أحد مشرفي منصة Udacity بعدم إمكانية تقديم الشهادة للطلاب من داخل سورية

بطبيعة الحال، يلجأ أغلب الأشخاص إلى وسائل أخرى للتغلب على الحجب أو لمنصات أخرى لا تحجب المستخدمين في الداخل السوري. لكن في بعض الأحيان (كما في الشهادة السابقة) لاتنجح هذه الوسائل بسبب ندرة المحتوى السابق وتخصصه، وفي أحيانٍ أخرى، يشكل فارق سعر المواد التعلمية حاجزاً يمنع الطالب السوري من أخذ هذه المصادر بعين الاعتبار.


ها نحن وصلنا إلى نهاية الجزء الأول، حيث بدأنا الحديث في هذا المقال عن تحديات حجب الخدمات و تقييد مصادر التعلم وناقشنا أهم الأفكار في كلٍ منها، وسنكمل الحديث في المقال القادم عن تحديات جديدة يمكن اعتبارها على أنّها أكثر صعوبة من التحديين السابقين.

وفي النهاية، نعود فنذكر بمنهجية العمل في هذه الدراسة؛

“نحن نقوم بمناقشة تحديات الماضي والحاضر بهدف استنتاج الدروس من أجل المستقبل

نراكم في الجزء الثاني، دمتم بكل خير.

1 فكرة عن “تحدّيات التقنية في سورية (1): حجب الخدمات ومصادر التعلّم”

اترك رداً على عبد الستار عرداتي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *